الحرية الفردية- نقد النموذج الغربي وتطلعات بديلة عادلة

المؤلف: منير شفيق10.15.2025
الحرية الفردية- نقد النموذج الغربي وتطلعات بديلة عادلة

عندما نتناول مفهوم الحرية الفردية، ليس فقط كحق للفرد في اختيار مساره أو القيام بما يشاء، بل بمعناه الأوسع، فإن هذا المفهوم يبدو في ظاهره واضحًا وغير قابل للرفض، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشؤون الشخصية للفرد.

إلا أن هذا المفهوم يتطلب تفصيلات دقيقة وشروطًا محددة عند تطبيقه على أرض الواقع. فحرية الفرد لا بد أن تتناغم مع حقوق الآخرين في المجتمع، لتجنب أي تعارض أو تصادم بين الحريات المتعددة. وهنا تبرز أهمية وضع ضوابط تنظم هذه الممارسة وتحدد إطارها.

ولكن قبل التعمق في استكشاف الحرية الفردية بأبعادها المتنوعة على مستوى الفرد والمجتمع، من الأهمية بمكان أن نتفحص جذورها في السياقين الفلسفي والاقتصادي والاجتماعي، كما تجسدت في مهدها الأصلي خلال عصر النهضة الأوروبية الحديثة. فقد ظهر هذا المفهوم بالتزامن مع تشكل النظام الرأسمالي الاستعماري الذي استغل ثروات العالم بعدما حقق الغرب (أوروبا وأمريكا) تفوقًا عسكريًا.

وهنا، أصبح مفهوم حرية الفرد في التفكير، أو الاعتقاد، أو العمل كما يشاء، بحاجة إلى رؤية فلسفية للكون، وإلى نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي يتمتع بالقوة والنفوذ: (دولة ذات جيوش قوية، وقوانين صارمة، ومؤسسات راسخة، وأجهزة أمنية متطورة، بالإضافة إلى إنشاء بنوك وشركات مالية وإنتاجية، وذلك لفرض سيطرة قارة، أو مجموعة دول غربية، على قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أي على مناطق العالم الأخرى.

ويؤكد هذا السياق حقائق تاريخية راسخة، تمتد من نهاية القرن الخامس عشر (التسيعينيات)، وبداية القرن السادس عشر الميلادي حتى يومنا هذا. فدراسة التاريخ هنا تمنحنا قوة علمية ومعرفية. ذلك لأن الفهم العلمي العميق لظاهرة الحرية الفردية في الغرب، أو أي ظاهرة اجتماعية أو إنسانية أخرى، يتطلب فهمًا لتاريخها من حيث النشأة، والمسار، وقوانين التطور، ومآلاتها المحتملة.

إن فهم كيفية نشأة المجتمع والدولة والنظام في الغرب المعاصر، والذي قام على أساس مفهوم الحرية الفردية، بما في ذلك النظريات الفكرية والسياسية التي نشأت لدعمه، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الغرب الحديث وتطوره.

فقد كانت هذه التطورات المهمة نتيجة لمسار تاريخي طويل الأمد، بدأ بخروج أوروبا من عزلتها في أعقاب الاكتشافات البحرية في أواخر القرن الخامس عشر، وتحديدًا منذ بداية القرن السادس عشر. ومع إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية في القرن الثامن عشر (1776)، انضمت أمريكا إلى هذا المسار الغربي المشترك الذي جمع بين أوروبا وأمريكا.

انبثقت النهضة الأوروبية المعاصرة من تشكيل الجيوش، والتي بدأت في البداية كحملات عسكرية تهدف إلى فرض السيطرة على العالم الخارجي، ونهب أكبر قدر ممكن من الذهب والفضة والكنوز، والعودة بها إلى أوروبا. ومع اشتداد المنافسة بين الدول الأوروبية للسيطرة على المستعمرات، ازدادت الحاجة إلى جيوش ضخمة برية وبحرية. وهذا ما يفسر الحاجة إلى التخلص من الأنظمة الإقطاعية لتوحيد البلاد، وتحرير الأقنان من أجل التعبئة العسكرية الشاملة.

وقد استلزم ذلك بدوره انتشار مبدأ "حرية الإنسان" أو الحرية الفردية داخل كل دولة، مما ساهم في توحيدها وتقويتها. بالتوازي مع ذلك، تشكلت طبقة رأسمالية جديدة، ارتكزت على الثروات المنهوبة من الخارج، مما أرسى الأسس لقيام النظام الرأسمالي في أوروبا.

كانت الرأسمالية في بداياتها الأولى ثمرةً للثروات المتراكمة من عمليات النهب الخارجي الواسعة. ومن هنا، ارتبط مفهوم "الحرية الفردية" الرأسمالية ارتباطًا وثيقًا بإقامة نظام يدعم ويشجع التوجه نحو السيطرة على العالم الخارجي. ومن الطبيعي أن تسعى هذه الطبقة الصاعدة إلى تعزيز مبدأ الحرية الفردية، سواء في امتلاك الثروة أو في الإنتاج الصناعي المتزايد، وحماية هذه الثروات من خلال إسقاط الحكم الملكي المطلق، والاتجاه نحو الديمقراطية البرلمانية.

هذا يؤكد أن الديمقراطية القائمة على أساس الحرية الفردية الرأسمالية لم تكن سوى نتاج لتلبية متطلبات السيطرة على الخارج ونهب ثرواته، بالإضافة إلى الثورة الصناعية الهائلة التي عززت قوة الرأسمالية المتوسعة. ومن ثم، بدأت عملية استغلال داخلية للعمال، جنبًا إلى جنب مع إنتاج السلع بكميات كبيرة. فالرأسمالية ليست مجرد نتيجة للنهب الخارجي، بل هي ابنة شرعية له بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

كان بناء الدولة الحديثة، وتشكيل الجيوش النظامية، والرأسمالية المتعطشة للأسواق العالمية، مدفوعين برغبة متزايدة في السيطرة العالمية، وما تبع ذلك من تأثيرات عميقة في مجالات الفكر والسلوك، التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من الحداثة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الرؤية تختلف عن الرؤية الماركسية التي اعتبرت نشأة الرأسمالية تطورًا طبيعيًا للمانيفاتورة داخل النظام الإقطاعي. وعلى الرغم من أن ماركس أشار في "البيان الشيوعي" إلى الدور الذي لعبه النهب الخارجي في تطور الرأسمالية، إلا أنه لم يعتبره العامل الأساسي في تكوينها. كما أنه لم يربط نشأة الوحدة الداخلية للدولة الحديثة بالسيطرة الأوروبية الخارجية، بل عزا ذلك إلى الدور الذي يلعبه الرأسماليون في توحيد السوق، حيث كانت الأولوية لتشكيل جيش قوي وكبير.

بل إن عددًا من الأنشطة العلمية تم توجيهها لخدمة تطوير الأسلحة، وتعزيز قدرة الجيش وسرعة تحركه، كما أن تطوير الأساطيل العسكرية البحرية كان في الأساس موجهًا نحو خوض الحروب الأوروبية – الأوروبية من أجل السيطرة على المستعمرات المترامية الأطراف.

بالعودة إلى موضوع الحرية الفردية التي تشكلت في أوروبا الحديثة، ومن ثم انتقلت إلى أمريكا، والتي على أساسها ولخدمة مصالحها، نشأت الفلسفة الغربية المعاصرة، والديمقراطية، والنظام الاقتصادي، في إطار الدفاع عنها وتسويقها على نطاق واسع. كما شملت هذه الإستراتيجية السيطرة الغربية الخارجية، وصولًا إلى إبادة الشعوب الأصلية في أراضي الأميركتين، التي تم اعتبار اكتشافها "خالية"، وبالتالي لا تدخل ضمن عالم الإنسان وتاريخه.

ولكن، كيف يمكن اعتبار هذه الأراضي "مكتشفة" وهي التي كانت مأهولة بالملايين من البشر، وتزدهر فيها حضارات عريقة؟ بل هناك دلائل قوية تشير إلى وصول حضارات شرقية قديمة إلى هذه الأراضي قبل تلك "الاكتشافات" الأوروبية المزعومة. لذا، فإن مفهوم "الاكتشافات" يعكس رؤية أوروبية مركزية ضيقة الأفق، ولا يمثل حقيقة تاريخية مسلمًا بها.

وبناءً على ذلك، يجب أن نتعامل مع مفهوم الحرية الفردية في سياق تجربته الغربية الفريدة، وليس باعتباره مجرد مفهوم مجرد وعام. فقد نشأت هذه الحرية كجزء من الحرية الفردية الغربية، وأخذت أبعادها التبسيطية التي تقدم نفسها كوسيلة ميسرة للأفراد؛ بهدف خدمة الصراع ضد بعض الأنظمة التي واجهت هذا الصراع التاريخي الطويل.

فالصراع المحتدم بين الحرية الفردية كنظام رأسمالي استعماري، وبين حاجة شعوب المستعمرات، التي جعلت من حرية الشعب والعدالة الاجتماعية هدفًا أسمى، هو الذي شكل هذا المفهوم. وقد نشبت ضد هذه الشعوب حروب طاحنة شنتها القوى الاستعمارية السابقة والحالية.

ولكن هذا كان في الماضي، ولا يتطلب حينها ما يستوجبه الآن من إعادة طرح موضوع الحرية الفردية كمبدأ عام، بعيدًا عن نموذجه الغربي المحدود. كما ينبغي أن نتعامل بحذر شديد مع ما تطرحه المنظمات غير الحكومية، التي قد تستخدم هذا المبدأ لترسيخ الهيمنة الغربية، أو للتخلي عن القضايا الجوهرية للشعوب، بما في ذلك التحرر العالمي وتحرير فلسطين.

حان الوقت في هذه المرحلة الحاسمة أن تُطرح حرية الإنسان كجزء لا يتجزأ من نضال الشعوب ضد الهيمنة الاستعمارية والصهيونية العنصرية الغربية، وأن تصبح حجر الزاوية في بناء أنظمة جديدة تطيح بعبودية الغرب، وتسهم في تأسيس عالم حر جديد. يتحقق ذلك من خلال ربط الحرية الفردية بالعدالة المطلقة بين الأفراد، وصون كرامة الإنسان، ومناهضة الظلم العالمي بشتى صوره، وصولًا إلى تحرير فلسطين كاملة غير منقوصة.

يجب تجاوز النموذج الغربي الضيق للحرية الفردية، لأن هناك جذورًا أعمق وأكثر أصالة لمفهوم حرية الإنسان في الحضارات غير الغربية، مثل الطرح الإسلامي الراقي الذي يعتبر البشر يولدون متساوين وأحرارًا، والأهم من ذلك أنهم يولدون مكرمين ومحترمين.

فالكرامة الإنسانية الرفيعة والعدل بين الأفراد يحتلان مكانة أسمى وأرفع من مجرد الإقرار بالمساواة والحرية الشكلية. وكما ورد في الحديث الشريف: "يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد. لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلاّ بالتقوى". حتى وإن ضعف سند الحديث أو فقد صحته، فإن محتواه السامي يعبر بصدق عن مقاصد الإسلام العليا وتراثه الثري بقيم إنسانية نبيلة.

ومن الشواهد البارزة التي تعزز مفهوم الحرية والعدالة في التراث الإسلامي العريق "حلف الفضول"، الذي قام على نصرة المظلومين ودعم حقوقهم. هذا المبدأ النبيل يعزز قيمة الحرية والعدالة، وهو ما تفتقر إليه الحرية الفردية في نموذجها الغربي السطحي.

وخلاصة القول، إذا كانت الهيمنة الغربية قد قدمت نموذجًا مشوهًا للحرية الفردية يتسم بالظلم وعدم الإنصاف، كما يظهر جليًا في النظام الرأسمالي الاستعماري والهيمنة الغربية المتغطرسة، وإذا كان الصراع المرير بين السيطرة الغربية وشعوب العالم قد أفرز ظروفًا قاسية أدت إلى انتهاك صارخ لحرية الإنسان، فهذا لا يعني مطلقًا أننا لا نستطيع في المستقبل إعادة صياغة مفهوم الحرية الفردية وكرامة الإنسان ضمن فلسفات ومبادئ وإستراتيجيات أخرى أكثر عدلاً وإنصافًا.

يجب أن تُطرح الحرية الفردية وحرية الإنسان في إطار نماذج ومناهج جديدة ومبتكرة، تسعى جاهدة نحو تحقيق عالم أكثر عدالة ومساواة بين الشعوب. وهذه النماذج والمناهج ينبغي أن تستمد جذورها العميقة من تراث الشعوب وأديانها ومعتقداتها الراسخة، وتعكس سماتها الحضارية الفريدة ومصالحها الخاصة، دون الخضوع لنموذج الحرية الفردية الرأسمالية الاستعمارية الغربية المفروضة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة